على الرغم من شيوع «صوت القبيلة» في الشعر العربي الجاهلي، الذي يمثل نتاج الشعراء المعروفين ، كما تبدو في المعلقات ، والاصمعيات ، وكتب الحماسة.. الخ، فقد قابل هذا الصوت الرسمي صوت فردي ثائر، ظل مسكوتا عنه، هو صوت شعراء الصعاليك، حيث أتيحت الفرصة لصوت الشاعر الفرد أن يظهر ويعلو، كاشفا عن تمرد صاحبه وثورته .
وهو التيار الذي استمر على مدار العصر الجاهلي، وامتد عبر ما يعرف بعصر (المخضرمين)، ثم ظهر له بعض نظائر وأصداء في عصر الاسلام، خلال عهد (بني أمية)، لكنه ظل مغيبا، على حد ما تؤكد الباحثة (تغريد حسن جاد) في أطروحتها لنيل درجة الماجستير حول «صورة المرأة في شعر صعاليك العصر الجاهلي» والتي أجازتها ـ مؤخرا ـ كلية الآداب جامعة القاهرة .
هؤلاء الشعراء الصعاليك ، الذين خرجوا عن السياق القبلي، لأسباب مختلفة، بعضها سياسي، أو اقتصادي ، وبعضها اجتماعي أو نفسي - كما تقول الباحثة ـ قدموا صورة مغايرة للمرأة ، حيث تحولت من موقعها الغزلي ـ كفتاة مدللة ـ الى كيانات متنوعة ، فهي الوفية التي لا تتوانى عن الوقوف خلف زوجها ، أيا كانت مشكلاته وهي الحكيمة التي تقدم النصح الجديد، وهي الشخصية الانسانية في تساميها ، حين تقوم بدورها النبيل ، مكافحة ومصارعة مشاق الحياة، من أجل البقاء .
وفي كل ذلك ـ كما تذكر الباحثة ـ ظهر التحول الفني واضحا في مسافات التعامل عبر رؤية العالم النسائي، من منظور شعراء تلك المرحلة المبكرة. ومع ذلك يري (لسان العرب) أن (الصعلوك) هو الفقير الذي لا مال له ، وهو الوصف الذي اتفقت عليه معظم معاجم العربية. ولهذا استخدمت من لفظة (الصعلكة) لتدل على جماعة يتجردون للغارات .
وقطع الطرق ، واللصوصية ، على حد تعريف (القرشي) ، صاحب كتاب «جمهرة أشعار العرب» . الصعلوك ـ اذن ـ في نظر الفقه اللغوي ـ هو لص، فاتك ، خليع ، ذئب . وهم أولئك المغيرون ، أبناء الليل ، الذين يسهرون ليلهم من أجل السلب والنهب، وممارسة الاغارة على القبائل والقوافل التجارية .
بيد أن أحد شعراء الصعاليك وهو السليك بن السلكة ، خالف كل هذه النعوت والادانات، حين رأى الشاعر الصعلوك المفضل عنده بوصفه بطلا مغوارا ، خواضاً للمعارك، مجرباً للأمور ، يهابه الرجال ، لأنه يعمل بسيفه ، فلا يثني أحداً. وفي هذا يقول (السلكة): ولكن كل صعلوك ضروب .
بنصل السيف هامات الرجال . وذلك لأن مجتمع الصعاليك - كما تقول الباحثة ـ لم يكن بمنأى عن القيم الأخلاقية الكريمة ، بوصف أن صعاليك العرب هم جماعة منهم قد أصابهم الفقر ، فتاقوا الى الغنى ، عبر مسالك المغامرة والغزو والفتك ، التي تؤهل الصعلوك لأن يحتل مكانة ذاتية ، اشتهر من خلالها كمغامر شجاع .
وان كان يدفع ثمنا غاليا، بعد أن انفصمت عرى صلته بالمجتمع فعاش طريدا مشردا ، حتى يلقى مصرعه لتجيئ حياة الصعاليك عذابا ، لا يحتمل ، يواجهونها باتباع نوع من السلوك العدواني الذي لم يكن هدفا في ذاته أو غاية لنيل مطامع فردية ، بل مجرد وسيلة للحفاظ على الحياة والكرامة . خصوصا وأن تمردهم لم يأت من فراغ ، وكان الشر من طباعهم . كما تؤكد الباحثة .
وفي هذا يقول أحد شعرائهم وهو (تأبط شرا):
ولا أتمنى الشر والشر تاركي.
ولكن متى أحمل على الشر أركب
هي ـ اذن ـ المخاطرة بالنفس لأنها ـ عندهم ـ أفضل من الهوان والخمول ، يقول (عروة بن الورد) :
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة
ان القعود مع العيال قبيح
ولهذا اتصلت أوصال مجتمع شعراء صعاليك جاهلية العرب ، واتحدت مشاعرهم بوطأة الظلم ، والفقر ، الواقع على كاهلهم ، فبادروا الى الأخذ عن الغني ، البخيل ، ومناصرة الفقير البائس، فحملت نفوسهم أخلاق نبيلة ، وقيم سلوكية رفيعة ، تغنوا بها في أشعارهم ، كالكرم الذي أتصف به أغلبهم .
يقول أحد مشاهير هؤلاء الصعاليك ، وهو (عروة بن الورد) :
فراشي فراش الضيف والبيت بيته
ولم يلهني عنه غزال مقنع
وهم ـ أيضا ـ أصحاب أنفة واعتداد بالنفس ، فيتحملون الأذى الجسدي، والجوع ، من أن يستجدى أحدهم غيره . والمدهش أنهم لا يستأثرون بما يأخذون ، بل كانوا يؤثرون من كان بهم خصاصة ، من أصحاب الحاجات المعوذين على أنفسهم . يقول (المبرد): «انما سمي عروة الصعاليك لأنه اذا اشتكى اليه فتى من فتيان قومه الفقر أعطاه فرسا ورمحا ، وقال له :
إن لم تستغن بهما فلا أغناك الله . لذا حمل شعر الصعاليك الكثير من قيم الشرف والعفة والاباء والتحمل والكرم ، وكأنه يحمل لوحات فنية تعكس الجوانب المشرقة في حياتهم عبر طرح التجربة الانسانية ، التي يحيونها ، فجاء شعرهم خاليا ـ في معظمه ـ من أساليب الصنعة والتكلف .
على حد ما تشير الباحثة . وبالطبع ، ففي قلب هذه المغايرة لصوت القبيلة الشعري، يتخذ أكثر شعراء الصعاليك أعلى المواقف سمواً حيال المرأة ، فرغبوا في عفتها وحيائها ، وأشادوا بجمال طبيعتها ، وخلقها ، وحسن معاشرتها. فهي بالنسبة لهم (حواء الخالدة)، وذلك على خلاف المرأة المنعمة ، المترفة، المدللة ، التي يطالعنا بها شعر الجاهلية الرسمي .
وذلك لأن المرأة لدى الشعراء الصعاليك غاية يراد بلوغها ، اذ إن (الشاعر المحب يصور المرأة كما يراها هو أو كما يحب أن يراها، ويعبر عن عاطفته الذاتية لا عن عواطف الغير، ويتغزل مدفوعا بميله الفني في تصويره ما يحس به فجاء غزل شعر بعض هؤلاء الصعاليك عفيفا عذريا ، كأحد أبرز عناصر الصورة الجمالية عندهم ، حتى أن كثيراً منهم شكا من تمنع بعض الحبيبات ، نتيجة حيائهن ، يقول (قيس بن الحدادية) :
وان الذي أملت من أم مالك
أشاب قذالي واستهام فؤاديا
لكن البعض الآخر تناول ـ أيضا ـ الجانب الحسي لمفتونته ، تحت وطأة الحرمان ، وشقاء واقعه ، الذي يدفعه الى توعدها ، كما في قول (تأبط شرا) :
لها الويل ما وجدت «ثابتا»
ألف اليدين ولا زملا
بيد أن صورة المرأة المحبوبة تعددت لدى الشعراء الصعاليك، فهي المفارقة، والراحلة، والصادة ، واللائمة ، فاتخم شعرهم بشحنات عاطفية شجية لترسم ـ لنا ـ نموذجا مثاليا للمرأة المحبوبة، حتى أن وصف بعضهم لجمالها الجسدي جاء عبر أشكال فنية، لا يطولها الاسفاف ، الى جانب احتفاء بعضهم بجمالها الخلقي والنفسي ، بوصفه أرفع مستويات الجمال والجاذبية الروحية. وهناك بعضهم الآخر الذي جمع في أشعاره بين جمال الخلقه وجمال الخلق ، كقول (السليك بن السلكة) :
لعمر أبيك والابناء تنمي
لنعم الجار أخت بني عوارا
من الخفرات لم تفضح أخاها
ولم ترفع لوالدها شنارا
كأن مجامع الأرداف منها
نقى درجت عليه الريح هارا
وعلى خلاف تعددية زيجات الرجل في العصر الجاهلي ، حظيت الزوجة عند زوجها (الشاعر الصعلوك) بمكانة رفيعة ، بوصفها شريكته ، التي عليه لها حقوق وواجبات، نظرا لتعلقه الشديد بامرأته ، فتغزل بها ، وبحسنها ، وأخلاقها . يقول (عروة بن الورد) ردا على زوجته ، حين أزمع الخروج، ليكسب جماعته المحتاجين ، وقد حاولت زوجته أن تثنيه عن ذلك ، خوفا عليه من المخاطر :
دعيني أطوف في البلاد لعلني
أفيد غني فيه (لذى الحق) محمل
أليس عظيما أن تلم ملمة
وليس علينا في (الحقوق) معول
ومما يدل على شدة حبه وعشقه لها ، يتحدث نفس الشاعر عنها وكأنها حبيبته ، وليست امرأته ، حين فارقته :
عفت بعدنا من أم حسان غضور
وفي الرحل منها آية لا تغير
وهناك ـ كذلك ـ المرأة التي تشارك الشاعر الصعلوك فضائله من سخاء، وجود ، واقدام ، واطعام للجياع ، واعانة للمنكوب ، مقول (عروة بن الورد) لامرأته :
سلي الطارق المعتز يا أم مالك
اذا ما أتاني بين قدري ومجزري
بل أن الشاعر الصعلوك لا يجد ما يشينه من أخذ مشورة امرته ، وأن يعمل بها ، كقول نفس الشاعر :
ذريني أطوف في البلاد لعلني
أخليك أو أغنيك عن سوء محضر
ولهذا تبوأ الصعلوك مكانه عالية لدى امرأته، لأن المرأة كان من حقها اختيار زوجها ، الا اذا كانت سبيه من سبايا الغزو ، حتى أن حق المرأة الجاهلية بلغ حد تزويج نفسها ممن ترغب. مما يجعل من اختيارها صعلوكا زوجا لها أمرا نابعا من اقتناع به ، وبما هو عليه من وضع قد ارتضته هي ، كما يتبدى في شدة غيره أزواج الصعاليك عليهم لشدة حبهن لهم، وفي خشيتهم على حياتهم ، على الرغم من علم هؤلاء النسوة ، مسبقا بطريقة الحياة المحفوفة بالمخاطر بهؤلاء الصعاليك، يقول (تأبط شرا) :
وكنت اذا ما هممت اعتزمت
وأحد اذا قلت أن أفعلا
وفي بيت آخر يوجهه (الشنفري) لامرأته، التي تملكها الجزع والخوف من أجله يقول:
دعيني وقولي بعد ما شئت انني
سيغدي بنعش مرة فأغيب
كما كان للمرأة الأم موقعها البارز في شعر الصعاليك ، لكون غالبيتهم ينحدرون من الهجناء ، أي أبناء الاماء، مما جعل من نسبهم عبئا آخر يضاف الى معاناتهم كقول (الشنفري) في مطلع لامية العرب :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فاني الى قوم سواكم لأميل
وعلى خلاف ما قامت عليه القصيدة الجاهلية الرسمية من تعدد أغراضها ، والتكثر منها ، قامت معظم قصائد الشعراء الصعاليك على غرض فني واحد ، مثل ميمية (أبي خراش)، ورائية (عروة بن الورد) ، وبائية (الاعلم) وعينية (قيس ابن الحدادية)،وغيرها مما رصدته الباحثة . وهو ما يعني أن أغلب ما وصل الينا من شعر صعاليك الجاهلية كان يحمل سمات خاصة عن فكر وفن تلك الطائفة المثيرة للجدل ، قديما وحديثا .
منقول مع التحية